النقد الجديد
(نشأته الأنجلوأمريكية ، مفاهيمه ، أعلامه ، تحولاته في النقد العربي المعاصر)
تدل عبارة "النقد الجديد" (New Criticism) على حركة نقدية أنجلوأمريكية شهيرة سادت خلال النصف الأول من القرن العشرين ، وكانت سنة 1941 سنة حاسمة في مسارها ونقطة انعطاف في تاريخ النقد العالمي برمته ، لأنها السنة التي ظهر فيها "إنجيل" هذه الحركة (!)؛ كتاب جون كرو رانسوم John Crowe Ransom (1888-1974) : (The new criticism) الذي صار عنوانه اسما للمدرسة كلها ، مدرسة (النقد الجديد) التي ربما أخفق المرحوم محمد غنيمي هلال[1] ومعه جمع من النقاد المصريين في ترجمتها إلى مدرسة (النقد الحديث) تارة ، و(مدرسة النقد الحديثة) تارة أخرى!.
على أن هذه التسمية قد تلتبس – أحيانا – بنظيرتها الفرنسية؛ حيث شاع مصطلح "النقد الجديد" بصبغته الفرنسية (Nouvellecritique) خلال الستينيات من القرن الماضي ، أثناء السجالات النقدية الحادة التي دارت بين أنصار النقد الأكاديمي التقليدي وأنصار النقد الحداثي؛ وربما كان كتاب رولان بارث "تاريخ أم أدب – حول راسين" (Histoire ou littérature – sur Racine) عام 1963 ، هو الشرارة الأولى لهذه المعركة الضروس ، أعقبها ريمون بيكار (R.Picard) بتعقيبه الساخر من بارت ونقده الجديد "نقد جديد أم خدعة جديدة ؟" (Nouvelle critique ou nouvelleimposture) عام 1965 ، ثم جاء سارج دوبر فسكي (S.Doubrovsky) لينتقم لبارت وينتصر للنقد الجديد في كتابه "لماذا النقد الجديد؟"(pourquoi la nouvelle critique?) ... ، وهكذا فقد تواتر مصطلح (النقد الجديد) ، بغير دلالته الأنجلوسكسونية ، ليكون عنوانا للمناهج النسقية الجديدة (بنوية ، سيميائية ، موضوعاتية ، ...) التي هيمنت على الساحة النقدية الفرنسية منذ سنوات الستينيات خصوصا. والطريف في الأمر ، أننا رأينا بعد الكتابات النقدية الفرنسية ، رغبة منها في إزالة اللبس بين الخطابين ، تجمع بين التسمية الإنجليزية وأداة التعريف الفرنسية (Le "New Criticism") للدلالة على النقد الجديد في صيغته الأنجلوأمريكية ، بينما تمحض للصيغة الفرنسية عبارة (La nouvelle critique).
ومع هذا التداخل الاصطلاحي ، فقد لاحظ كثير من الدارسين تشابها مدهشا – على مستوى المفاهيم – بين ( النقد الجديد) و(الشكلانية الروسية) و(البنوية الفرنسية) .
ظهر النقد الجديد ( الأنجلو أمريكي) في سياق مواجهة بعض الاتجاهات الوجدانية الذاتية (الانطباعية) والوثائقية (التاريخية) التي غطت على النص وغمرته بما ليس منه ، مستلهما أفكار المدرسة التصويرية (Imagism) الشكلية التي أسسها الشاعر الأمريكي الكبير إزرا باوند – Ezra Pound (1885-1972) في بدايات القرن الماضي ، إضافة إلى الأفكار النقدية الحداثية التي جاء بها الشاعر الناقد الأمريكي الأصل الإنجليزي الجنسية ت. س. إليوت Thomas Stearns Eliot (1888-1965) بشأن نظرية (المعادل الموضوعي Objectifcorrelatif)[2] خصوصا ، وأعمال إ.أ. ريتشاردز Ivor Armstrong Richards (1893-1979) صاحب "مبادئ النقد الأدبي" 1924 ، و"العلم والشعر" 1926 ، و"النقد العملي" 1929 ، هذا الكتاب الأخير الذي كان خلاصة تجارب أجراها مع زملائه وطلبته في جامعة كمبريدج؛ حيث كان يطلب منهم تحليلا نقديا لمجموعة من القصائد الغفل ، بعد أن ينزع عنها أسماء أصحابها ويعدل في لغتها ما يدل على عصرها ، منتهيا إلى الحكم القاسي على فشل القارئ العصري في مسايرة متطلبات العصر ، مع التأكيد على المعنى الكامل للقصيدة بعيدا عن أي شرح نثري معادل لها ، وضرورة التدريب القرائي الصارم ، لأن الشعر الجيد في نظره هو الذي يتسم بمفارقته لمرجعيته الخارجية ، وهو يقتضي "قراءة مفصلة" ... .
وفي حديثنا عن نشأة النقد الجديد ،تستوقفنا – في الضفة الإنجليزية – صورة الناقد فرانك ريموند ليفيز F. R. Leavis الذي أسس مع زوجته مركزا لدراسة النظرية والنقد بجامعة كمبريدج ، ثم أسسا مجلة نقدية رائدة "سكروتيني Scrutiny" (التي قد تعني : التمحيص ، أو الفحص الدقيق) ، وقد صدر عددها الأول في ماي 1932. أما على الضفة الأمريكية فتلوح لنا صور مجموعة من الشعراء والنقاد بولاية تينيسي ، المعروفين باسم "الهاربين" أو "هاربي ناشفيل" (The Nashville Fugitives) منذ 1919 الذين كان محورهم ج. ك. رانسوم الذي التف من حوله طالباه السابقان بجامعة (Vanderbilt): آلان ثيث Allen Tate (1899-1979) ، وروبرت بان وورن Robert Penn Warren ، إضافة إلى واحد من طلبة تيت نفسه هو كليث بروكس Cleanth Brooks (1906-1994). فضلا عن ر. ب . بلاكمور : Richard Palmer Blackmur (1904-1965) ، وكينيث بورك Kenneth Burke (1897-1986) ، وقد أصدر هؤلاء مجلة "الهاربين" 1922-1925 كما أصدروا (المجلة الجنوبية Southern Review) 1935-1941 بإشراف بروكس وورن.
ومن الأسماء التي أطلقت على هؤلاء النقاد الأمريكيين[3] :
النقاد الجنوبيون ، النقاد الريفيون ، النقد الهاربون ، وإن استقروا – بعد ذلك - على تسمية النقاد الجدد.
لقد كان معظم أقطاب النقد الجديد ، في البداية ، شعراء أو صحفيين أحرارا أو موظفين في مراكز تدريسية نائية ، ومع نهاية الثلاثينيات ارتسمت حركة استراتيجية تبتغي الترسيخ الأكاديمي للنقد الجديد ، في شكل هجرة مهنية؛ إذ انتقل رانسوم سنة 1937 إلى ولاية أوهايو حيث أسس مجلة كينيون (Kenyon Review) إضافة إلى تأسيس ملتقى نقدي سنوي ، وتحصل تايت عام 1939 على زمالة بجامعة برينستون ، أما وورن فقد هاجر شمالا إلى جماعة مينيسوتا سنة 1942 ، كما وجد شابان متعاطفان مع النقد الجديد مناصب عمل بجامعة يال هما : و.ك. ويمزات William Kurtz Wimsatt (1907-1975). وريني ويليك (1903- ؟) سنتي 39 و1941 (على التوالي) ثم التحق بهما بروكس سنة 1947. وتعززت هذه الحركة سنة 1938 بصدور مختارات تدريسية جديدة بعنوان (فهم الشعر) لبروكس ، وورن ، وضعت مقاربات النقد الجديد في شكل مدرسي" ينأى عن الدراسة التراجمية أو التذوقية البسيطة أو البحث عن المضمون. دون أن ننسى الدور الذي لعبه إمبسون Sir William Empson (1906- 1984) في إنجلترا ، وهو أحد أنجب طلبة ريتشاردز في جامعة كمبريدج ، حيث طور إيعاز منه منطق القراءة المفصلة في بحث تخرج حول تعدد المعنى في الشعر نشره عام 1930 بعنوان (سبعة أنماط من الغموض: Seven Types of Ambiguity ) يتقصى شتى أنواع الإبهام (التشبيهات المزدوجة المعنى ، التورية ، الصورة المعقدة ، الخلط العفوي ، التناقضات ، الترددات ...) منتهيا إلى أن الإبهام ليس مشكلة تركيبية أو منطقية بل أصبح معيارا ضمنيا للقيمة الأدبية.
وعموما فقد ناهض النقد الجديد الاهتمامات الاجتماعية للنقد اليساري ، مصرا على المتطلبات الشكلية للشعر كشعر وليس كعقيدة إيديولوجية أو وثيقة تاريخية ، ومراجعا للمفاهيم النقدية السائدة.
ويمكن أن نجمل الأسس والخصائص المنهجية العامة التي ينهض النقد الجديد عليها ، فيما يلي :
- دراسة النص الأدبي بعد اقتلاعه من محيطه السياقي؛ فمن النص الانطلاق وإليه الوصول ، دون اعتبار بقصدية الناص ووجدانية المتلقي ، أو ما أجملهما ويليام ويمزات (William Kurtz Wimsatt ومونرو بيدزلي M. Beardsly) في مقولتي :
المغالطة القصدية (Intentional Fallacy)* 1946.
المغالطة التأثيرية (Affective Fallacy)** 1949.
اللتين صاغاهما في كتابهما المشترك (الأيقونة اللفظية The Verbal Icon) عام 1954. وهما مغالطتان "يجب حماية النقد الموضوعي من خطرهما" على حد تعبير صاحب (النقد والنظرية الأدبية منذ 1890) ، تعكسان شغف النقد الجديد بالنص الأدبي كشيء.
تقتضي (المغالطة القصدية) أن ملكية النص تتجاوز الناص إلى جمهور القراء ، بمعنى أن النص بدخوله عالم اللغة يتحرر من سلطة المؤلف ورقابته على معانيه؛ فالقصد إما هو غير موجود (إلا في مجال سحيق لا سبيل للوصول إليه" المعنى في بطن الشاعر" ، أو هو موجود بشكل محور ضمن النص مبتور الصلة بأصل القصد) ، وإن وجد فهو ملغى ، ومن المغالطة أن يتقيد القارئ به.
كما تقتضي (المغالطة التأثيرية) الفصل بين ماهية النص وتأثيره على القارئ ، لأن الخلط بين النص وما يحدثه من نتائج وآثار على نفسية المتلقي في ظروف خاصة هو وهم أو خطأ نقدي ما ينبغي للناقد الموضوعي الحصيف أن يقع في شراكه ، لأنه إن وقع فسيقع في هوة الانطباعية الذاتية التي كان النقد الجديد قد قام – أول ما قام – على أنقاضها.
- اتخاذ "القراءة الفاحصة" (Close reading)* وسيلة تحليلية مركزية في الدراسة النصية؛ تتقصى معجم النص وتراكيبه اللغوية والبلاغية ورموزه وإشاراته وكل العناصر الجوهرية التي تضيء دلالاته وتفك مغاليقه ، ويدل هذا المفهوم المركزي على فحص النصوص المفردة بعيدا عن بيئتها الثقافية والاجتماعية ... .
- الاهتمام بالطبيعة العضوية (Organicism) للنص الأدبي ، ودراسته بوصفه وحدة عضوية متجانسة العناصر التي هي مكوناته الداخلية الأساسية. وقد أخذ النقد الجديد فكرة (العضوية) عن الشعراء الرومانسيين وطوروها ويؤول مبدأ الشكل العضوي إلى اعتبار النص الأدبي كائنا لغويا (كالكائن النباتي أو الكائن الحيواني) ، يمثل بنية كلية متجانسة مستقلة عن الظروف والمؤثرات المحيطة ، مثلما يؤول إلى أن النص وحدة كلية متداخلة يستحيل فصل "شكلها" عن "مضمونها"؛ حيث يتساءل آلان تيت:
"هل في الإمكان التمييز القاطع بين اللغة والمضمون ؟ أليس المضمون واللغة شيئا واحدا ؟"[4] ، ومن يرى عكس ذلك فإن كلينث بروكس يشبه موقفه بمن يتصور أن الشعر حبة دواء مرة مغلفة بغلاف حلو المذاق![5] ومن هذا المنطلق ناهض بروكس ما أسماه (Heresy of paraphrase)؛ أي "هرطقة الشرح" أو "بدعة التخليص"؛ بمعنى التحذير من الخلط بين القصيدة وبين تلخيص محتواها ، لأن شرح القصيدة (أو نثر أبياتها) يقتضي التسليم بافتراض أن معناها أو فكرتها أو مضمونها يمكن أن يفصل عن عملية التعبير. ذلك أن النقاد الجدد قد رفعوا شعار أرشيبالد مكليش (القصيدة توجد ولا تعني)؛ بمعنى أنها لا تمتلك معنى منفصلا بل هي تعبير عن مجموع قيمها ومعانيها المنظمة.
- الاهتمام بالتحليل العلمي للنص ، ونبذ التقويم المعياري ما أمكن ذلك أي الحذر من الإسراف في إطلاق الأحكام لاسيما تلك التي تعوزها الأدلة التعليلية والحيثيات النصية؛ فقد صار الحكم النقدي – لدى النقاد الجدد - جزء من العملية التحليلية ذاتها.
- نبذ الالتزام ورفض استخدام الأدب وسيلة لغاية رسالية معينة (اجتماعية ، سياسية ، أخلاقية ، ...).
لقد ازدادت هيمنة النقد الجديد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، لكنه فتر بعد ذلك مع نهاية الخمسينيات ، وتحديدا سنة 1957 التي جعل منها كريس بولديك "يوم الحساب" في تاريخ النقد الجديد!.
فمع مطلع الخمسينيات بدأ الاعتقاد بانتهاء زمن النقد الجديد؛ حيث اشتكى ر. ب . بلاكمور 1955 من فشل هذا النقد في التحول من التحليل التقني إلى المقارنة والتقييم النقديين ، ومن معالجة القصائد القصيرة إلى التعامل مع الأعمال الأدبية الكبرى، ، مؤكدا الإحساس الذي انتاب آلان ثيت – قبله – عام 1951 ، في مقاله (هل النقد الأدبي ممكن ؟) الذي أنهاه بإجابة سلبية واضحة ، لأن التحليل اللغوي وحده غير كاف في غياب المعنى التقييمي الأوسع وهكذا أجمعت الانتقادات على ضيق أفق النقد الجديد ، لـ "تجاهله للسياق التاريخي والعوامل الخارجية ، وعدم اهتمامه بالمؤلف والقارئ ، كما يؤخذ عليه أنه نخبوي النزعة ، دكتاتوري السياق ، إذ هو يحمي الأستاذ العالم ضد الطالب المسكين المتدرب ، كما قيل ، ويقال إنه نقد ميكانيكي يجد ما يطلبه في كل نص يختاره ، فيختار دائما ما يتناسب مع أدواته ومقولاته (كتفضيل الشعراء الميتافيزقيين على غيرهم واقتصاره على القصيدة الغنائية وفشله في التعامل مع النصوص الطويلة كالرواية والمسرحية) ، ولا يشجع الدارس على البحث عن غير ما يجتره ممارسو هذا النقد"[6].
لقد اتهم النقد الجديد بمجافاة "(الديمقراطية الأدبية) ، وذلك حين يعمل في دائرة شبه مغلقة على نفسها (...) وكانت التهمة الثانية أن موهبة النقد الجديد موهبة ذات بعد واحد ، هي تأخذ خيطا واحدا من خيوط العمل الأدبي (هو قالبه) ، وتعزله عن بقية خيوط النسيج ، ثم تعامله على أنه النسيج كله ،و قد شعر تلاميذ الأدب وهم يتركون قاعات الدرس ، بعد تلقيهم هذه التحليلات النصية المرهقة بطريقة (القراءة الفاحصة) أنهم أمام نقاد يعرفون هم وحدهم سر صنعتهم ، ويضنون بهذا السر على من سواهم. وقد تصاعدت التهم الموجهة إلى هذا النقد ، حتى بلغت حدا جعلته فيه مرادفا لاتجاهات كانت قد ماتت منذ زمن بعيد ، مثل (الجمالية) و(الفن للفن) و(الانطباعية) و(الانعزالية) ..."[7].
وقد توجهت هذه الانتقادات ، مع نهاية الخمسينيات ، بتصميم جماعي على التحرر من قيود النقد الجديد ، والبحث عن برامج نقدية بديل