انتقل النقد الجديد إلى الوطن العربي مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات ، وكان من الطبيعي أن يحمل لواءه جمع من النقاد المتغلغلين في أوساط الثقافة الإنجليزية ، فكان فارس هذه المرحلة بدون منافس هو الدكتور رشاد رشدي "1912 – 1983 (أول دكتور مصري في الأدب الإنجليزي) الذي ناضل وعارك في سبيل ترسيخ هذه الحركة النقدية الجديدة ، عبر كتبه المختلفة (ما هو الأدب ، مقالات في النقد الأدبي ، النقد والنقد الأدبي ، فن القصة القصيرة ...) ،داعيا إلى تكوين جمعية للنقاد وفقا لهذه المبادئ الجديدة ، مما جعله يخوض معارك نقدية طويلة على جبهات مختلفة ، لاسيما معاركه مع الدكتور محمد مندور[1].
وقد آزره في هذه الجهود ، وحمل الراية معه وبعده بعض طلبته الذين – وبتوجيه منه – اضطلعوا بتقديم النظرية النقدية الجديدة لدى النقاد الغربيين الجدد ، عبر سلسلة كتيبات؛ حيث نشر محمد عناني "النقد النحليلي" عام 1962 (ط.2 ، 1991) عن كلينث بروكس ، ونشر سمير سرحان "النقد الموضوعي" (ط.2 ، 1990) عن ماثيو أرنولد ، كما نشر عبد العزيز حمودة كتابه "علم الجمال" عن كروتشي ، ونشر فايز اسكندر "النقد النفسي" عن ريتشاردز ، ... .
وقد صدرت جميعها عن الأنجلو المصرية ،ضمن سلسلة (مكتبة النقد الأدبي). متضافرة مع جهود أخرى من هنا هناك ، سابقة أو لاحقة ، يمكن أن نشير بالخصوص إلى كتاب (النقد الجمالي) للناقدة اللبنانية روز غريب الذي يحمل تاريخا متقدما نسبيا (هو سنة 1952) ، بالإضافة إلى أسماء أخرى كالدكتور محمود الربيعي الذي تبدو حتى بعض عناوين كتبه (قراءة الرواية 1974، قراءة الشعر 1985) محاكية لعناوين بعض كتب النقد الجديد (فهم الشعر 1938 وفهم الرواية 1943 للناقدين كلينث بروكس وروبرت ب. وورن)! ، والدكتور مصطفى ناصف الذي درس الأدب العربي من موقع "التحليل اللغوي الاستاطيقي" والدكتور لطفي عبد البديع الذي آمن بأن "البحث الاستطيقي (هو) الذي يتطلبه الشعر" ، والدكتور أنس داود الذي درس الأدب وفقا لمنهج "الرؤية الداخلية".
وهكذا فإن ما عرف في نقدنا العربي المعاصر باسم (المنهج الفني) يمكن أن يكون صدى عربيا مباشرا لمدرسة (النقد الجديد) الأنجلوالأمريكية ، بصرف النظر عن التسميات المنهجية الفرعية التي يطلبها كل ناقد على ممارسته النقدية الخاصة؛ كـ "النقد الجمالي" لدى روز غريب ، و"النقد الموضوعي" لدى سمير سرحان ومحمود الربيعي كذلك ، و"النقد التحليلي" لدى محمد عناني ، و"التحليل اللغوي الاستاطيقي" لدى مصطفى ناصف ، و"البحث الاستطيقي" لدى لطفي عبد البديع ، و"منهج الرؤية الداخلية للنص الأدبي"لدى أنس داود ، ... .
ويمكن أن نجمل الأسس التي يقوم عليها مثل هذا (المنهج الفني) لدى هؤلاء النقاد في ما يلي :
- النظر إلى النص الأدبي على أنه ليس نسخة من الواقع ، ولكنه "معادل فني" له ، فهو "كيان مستقل" على حد تعبير مصطفى ناصف "ينمو وفقا لمنطق داخلي كامن فيه متميز ، بطريقة ما ، من المؤثرات الخارجية سواء في ذلك البيئة الاجتماعية والتكوين السيكولوجي للفنان"[2]؛ إذ لو كان الأدب معادلا للواقع ، لكان لنا في الواقع مندوحة عن الأدب.
- دراسة النص الأدبي في ذاته مستقلا عن محيطه السياقي ، أي التركيز على أدبية الأدب ، والانطلاق من النص بعيدا عن صاحبه والظروف المحيطة به ، ذلك أن للنص الأدبي حياته وروحه العامة التي لا تأتي من الخارج ، فهو يشبه النبات – على حد تشبيه مصطفى ناصف – "يتغذى بأشياء ولكن خصائص النبات لا يمكن أن تعزى إلى ظروف الأرض التي يعيش فيها"[3] ، ويؤكد ناصف هذه الفكرة بمثال رياضي آخر:
"(أ) قد تؤدي إلى (ب) ، ولكن معنى (ب) غير معنى(أ)[4] ، وكذلك يبتر لطفي عبد البديع النص عن صاحبه ، ذاهبا إلى "مغايرة الشعر لقائله ، وتعاليه عليه"[5].
أما محمود الربيعي فربما يكون من أكثر النقاد استماتة في الدفاع عن استقلالية النص الأدبي؛ التي تتحول لديه إلى عقيدة نقدية راسخة : "تتلخص عقيدتي النقدية في استقلال العمل الأدبي عن كل ظرف من ظروف تكوينه ، وبخاصة ما يتصل بالظروف السياسية والاجتماعية ، إنني أؤمن بأن العمل الأدبي نشاط بشري حيوي كامل في ذاته ، مستقل بنفسه ، له أصالته وقدرته التوجيهية المستقلة للحياة ، وأدين بأن العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة تفاعل حيوي لا علاقة فعل ورد فعل ، أو علاقة صورة منعكسة في مرآة. لذا يدهشني جدا ما يهتم به كثيرون من فحص العناصر المكونة للمجتمع على أساس أنها هي التي تؤثر على الأدب بصفته إنتاجا هو ابن بيئته. ويدهشني أكثر ما يحدث من الربط العضوي بين حياة الأديب الذاتية (وصحيفة أحواله المدنية) وأدبه ، فيفسر الثاني في ضوء الأول. وأرى الأدب في كل صوره طائرا متأبيا مستعصيا جموحا ، لا يخضع لتوجيه شيء من خارجه، ولا يستجيب إلا للعناصر التي تشكل كيانه هو ، وأرى أن هذا المخلوق المتخلق من عناصر أولية (هي السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد) إنما هو مخلوق جديد يحيا حياة لا تحددها العناصر الأولية له ، ولا يحدث أثره على نحو محكوم بهذه العناصر. وهل نقول إن الماء الذي هو أكسجين وإيدروجين يحمل خصائص أي من عنصريه المكونين له ؟ وهل لأثره علاقة بأثر أي منهما؟ إننا نرى – على العكس – أن أثره في الإطفاء يناقض أثر أحد عنصريه في الإشعال"[6].
- النص كيان فني يقتضي دراسة لغوية جمالية .
ذلك أن "العمل الأدبي تكوين جمالي لغوي إيقاعي يعادل الحياة ، ويحقق على نحو فريد صورة هذه الحياة"[7] في نظر محمود الربيعي الذي يؤثر الدخول إلى عالمه الأدبي من باب لغوي : "مدخلي إلى نقد العمل الأدبي مدخل لغوي ، وأنا من المؤمنين بأن العمل الأدبي إنما هو بناء لغوي"[8] ، أما مصطفى ناصف فيتشيع للتحليل اللغوي الاستاطيقي (الجمالي) الذي يحتاج النص إليه "حاجة ماسة أيا كان الغرض الذي تسعى إلى تحقيقه"[9] ، وكذلك يدعو لطفي عبد البديع إلى "البحث الاستطيقي الذي يتطلبه الشعر"[10].
- النظر إلى النص الأدبي كصورة عضوية متكاملة ، موحدة الشكل والمضمون؛ فالشكل – عند مصطفى ناصف – هو "قوة المضمون ووحدته وتركبه ، وليس قالبه أو وعاءه الذي يحفظ فيه"[11]؛ لذا يدعو إلى وحدتهما العضوية ، نابذا فكرة تشبيه بعض الدارسين للشكل بـ : "التكنيك الذي يتبعه اللص في سرقة المنزل ، يستطيع هذا التكنيك أن ينتزع إعجابنا ويظل عمل اللص منكرا قبيحا"[12]. أما محمد عناني فيدعو إلى اعتبار العمل الفني "وحدة مترابطة لا تنفصل إلى شكل ومضمون (...) كما أن اعتبار الأعمال الفنية كائنات عضوية أي نامية متكاملة – لا نستطيع بتر جزء منها دون إيذاء العمل أو حتى قتله – أقول أن هذه النظرة العضوية يتلاشى أمامها الحاجز الموهوم بين الشكل والمضمون"[13] وكذلك يرى سمير سرحان أن "(الشكل) ليس إناء يصب فيه (المعنى) أو كما يقول الناقد بروكس السكر الذي يغلف حبة الدواء لكي يستطيع الإنسان ابتلاعها"[14] ، كما يرى محمود الربيعي أن اللغة "هي كل شيء : هي الفكر والشعور والقول؛ فأنا أفكر باللغة ، وأحس باللغة . وإني لأعجب من هؤلاء الذي يفصلون بين الفكر واللغة ، وكأنهم يقولون إن الأفكار ترقد جاهزة في الذهن ، ثم تأتي الأثواب اللغوية فتكسوها وتخرجها إلى حيز الوجود. كذلك أعجب من الذي يفصلون بين العواطف واللغة. وكأنهم يقولون إن العواطف ترقد جاهزة في النفس ثم تجيء اللغة لتحملها إلى حيز الوجود"[15].
- الدعوة إلى التحليل ونبذ التقييم وما ينجر عنه من إصدار لـ "الأحكام دون (حيثيات) ، ودون مجرد الاستماع إلى عناصر (القضية)"[16] ، ذلك أن التحليل موقف يتيح لنا رؤية الكثير واستيعاب الغريب برحابة أوسع ، أما التقييم فكثيرا ما بجعلنا ننظر من وجه ونهمل آخر ، نحب معيارا ونرفض آخر ، بل كثيرا ما يرتبط بمعايير غير أدبية؛ إن "التقييم يحمل منطق عواطفنا وفلسفتنا واعتقاداتنا ، واعتقاداتنا متغلغلة في أي موقف نتخذه ، ولكن التحليل في وسعه أن يؤدي إلى تهذيبها والحد من طغيانها"[17].